تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

مختص بالطعام. وقال الزجاج : انه مصدر مؤكد لأن قوله (أُحِلَّ لَكُمْ) في معنى التمتيع (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) قال العلماء : صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء ، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر ، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ، ويجب على قاتله الجزاء. واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية ، ولما روي عن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله. وقال مالك والشافعي وأحمد : إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» (١) وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل ولم يشر ، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لما روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا : لا فقال : هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله. فأخذها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكلها. وهذان القولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وقال في الكشاف : أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل : وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر ، فيخرج عنه مصيد غيرهم. ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة. ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وهو كلام جامع للوعد والوعيد.

ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال (جَعَلَ اللهُ) أي حكم وبين بالخطاب والتعريف ، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب (قِياماً لِلنَّاسِ) وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا «الناس فعلوا كذا» أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم. وبيان القيام أن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبى إليه ثمرات كل شيء ، وإما بدفع المضار وقد صيره حرما آمنا ، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه‌السلام. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى

__________________

(١) رواه ابو داود في كتاب المناسك باب ٤٠. الترمذي في كتاب الحج باب ٢٥. النسائي في كتاب المناسك باب ٨١. أحمد فى مسنده (٣ / ٣٦٢ ، ٣٨٧).

٢١

وأظهر من أن تخفى. وانتصب (الْبَيْتَ الْحَرامَ) على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح ، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية. وعن عطاء بن أبي رباح : لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا. وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة. وإنما كان الشهر الحرام سببا لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة ، فلو لا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع. وأيضا هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها. وأما الهدي فإنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء ، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد ، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياما للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل ، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سببا للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان. ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها ، عللها ومعلولها ، موجودها ومعدومها ، وذلك قوله (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن انتهك محارمه (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن حافظ عليها. وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال «سبقت رحمتي غضبي» (١). ثم قرر أن الرسول ما كان مكلفا إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم ، وفيه من الوعيد ما فيه ، عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله عزوجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها» (٢). فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي واستفدت

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٥٥. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٥. أحمد في مسنده (٣ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

(٢) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب ٢. الترمذي في كتاب البيوع باب ٥٨. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥ ، ٧١).

٢٢

من بيع الخمر مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيب ، وأنزل الله عزوجل تصديقا لقول رسوله (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها ، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية ، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته ، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني ، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم ، فلا تستبدل الخبيث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، لأن كثرته في التحقيق قلة ، ولذته في نفس الأمر ذلة ، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف.

التأويل : (لا تُحَرِّمُوا) على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية (وَلا تَعْتَدُوا) ولا تجاوزوا عن حد العبودية (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) واجتهدوا في طلب ما خصكم به الله من تجلي جماله وجلاله (حَلالاً طَيِّباً) يحل فيكم بريئا من سمات النقائص. (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاء النفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء المجاهدات وإعواز المشاهدات (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ) إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان (فَكَفَّارَتُهُ) حينئذ (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) الحواس الظاهرة والباطنة. (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) وهم القلب والسر والروح والخفاء ، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف ، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور ، أو يكسوهم لباس التقوى ، أو يحرر رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لا يعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه. ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئا من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو ، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقاله لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة.

أريد وصاله ويريد هجري

فأترك ما أريد لما يريد

ومن اللغو في اليمين عندهم ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجد من تجديد

٢٣

العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم :

وحقنك ما نظرت إلى سواكا

بعين مودّة حتى أراكا

فإن هذا ينافي التوحيد وأين في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالتقليد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال البدنية الشرعية (جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) من المباحات (إِذا مَا اتَّقَوْا) الشبهة والإسراف (وَآمَنُوا) بالتحقيق بعد التقليد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه ومن تحليته بالأخلاق المضادة لهواه كالصدق والإخلاص والتوكل والتسليم وما عداه (ثُمَّ اتَّقَوْا) شرك الأنانية (وَآمَنُوا) بهويته (ثُمَّ اتَّقَوْا) هذا الشرك وهو الفناء في الفناء (وَأَحْسَنُوا) وهو البقاء به فافهم جعل الله البلاء لأهل الولاء كاللهب للذهب فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمان المحسنين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) في أثناء السلوك بشيء من الصيد وهو المطالب النفسانية والمقاصد الدنيوية الدنية. (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) يعني اللذات البدنية ورماحكم يعني اللذات الخيالية (فَلَهُ عَذابٌ) الردّ والصد (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني من أحرم لزيارة كعبة الوصال فعليه حسم الأطماع من الحرام والحلال (مُتَعَمِّداً) أي عالما بما في الالتفات إلى غيره من المضار (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل ألمها تلك اللذة (ذَوا عَدْلٍ) هما القلب والروح يحكمان على مقدار الإسلام وعلى حسب قوّة السالك بتقليل الطعام والشراب ، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة وضبط الحواس (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) خالصا عن الخلق لأجل الحق (طَعامُ مَساكِينَ) هم العقل والقلب والسر والروح والخفاء كانوا محرومين عن أغذيتهم الروحانية فيطعمهم المعاملات الروحانية من صدق التوجه والصبر على المكاره والفطام عن المألوفات ومن الشكر والرضا وغير ذلك. (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) هو الإمساك عن الأغيار والركون إلى الواحد القهار لتذوق النفس الأمارة وبال أمرها ، فإن كل هذه الأمور على خلاف طبعها (ذُو انْتِقامٍ) ينتقم من أحبائه بنقاب الدلال ، ومن أعدائه بحجاب الملام والملال. (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ) بحر المعارف والكشوف تنتفعون بالواردات وتطعمون منها السائرين إلى الله من أهل الإرادات (صَيْدُ الْبَرِّ) ما سنح للسائرين من مطالب الدنيا (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي في حال المحو لا في حال الصحو. (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) كعبة الظاهر (قِياماً) للعوام والخواص يستنجحون بها حاجاتهم الدنيوية والأخروية ، وكعبة القلب قواما للخواص ولخواص الخواص يلوذون بها بدوام الذكر ونفي الخواطر حتى يعلموا أن لا

٢٤

موجود إلا هو ، ولا وجود إلا له (الْبَيْتَ الْحَرامَ) حرام أن يسكن في كعبة القلب غيره والشهر الحرام هو أيام الطلب حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق. والهدي هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع قلائد أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ، فإذا وصل العبد إلى كعبة القلب شاهد بأنواره أن لله ما في السموات وما في الأرض. (شَدِيدُ الْعِقابِ) يسدل الحجاب لغير الأحباء غفور رحيم للصادقين في الطلب بفتح الأبواب (إِلَّا الْبَلاغُ) بالقال يتلو عليهم آياته وبالحال ويزكيهم (ما تُبْدُونَ) بإقرار اللسان (وَما تَكْتُمُونَ) من تصديق الجنان الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله بل الطيب هو الله والخبيث ما سوى الله وفي ذلك كثرة والله أعلم. قول الله عزوجل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ

٢٥

بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

القراآت : (يُنَزَّلُ) من الإنزال : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب (شَهادَةُ) بالتنوين آلله بالمد : روح وزيد. الباقون بالإضافة. «استحق» على البناء للفاعل : حفص والأعشى في اختياره الباقون على البناء للمفعول. (الْأَوْلَيانِ) جمع الأول نقيض الآخر. سهل ويعقوب وحمزة وخلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون (الْأَوْلَيانِ) تثنية الأولى الأحق (الْغُيُوبِ) بكسر الغين حيث كان : حمزة وحماد وأبو بكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في (سِحْرٌ) وكذلك في هود والصف : حمزة وعلي وخلف الباقون (سِحْرٌ) هل تستطيع بتاء الخطاب (رَبُّكَ) بالنصب : علي والأعشى في اختياره ، الباقون بالياء وبالرفع (أَنْ يُنَزِّلَ) بالتخفيف من الإنزال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد (مُنَزِّلُها) بالتشديد : عاصم وأبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالتخفيف (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع (وَأُمِّي) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص (لِي أَنْ) بالفتح : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالسكون (يَوْمُ يَنْفَعُ) بفتح الميم : نافع. الباقون بالرفع.

الوقوف : (تَسُؤْكُمْ) ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف. (تُبْدَ لَكُمْ) ط (عَنْها) ط

٢٦

(حَلِيمٌ) ه (كافِرِينَ) ه (وَلا حامٍ) لا للاستدراك. (الْكَذِبَ) ط (لا يَعْقِلُونَ) ه (آباءَنا) ط (وَلا يَهْتَدُونَ) ه (أَنْفُسَكُمْ) ج لاحتمال الاستئناف أو الحال أي احفظوا أنفسكم غير مضرورين (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) ط (قُرْبى) ز لأن قوله (وَلا نَكْتُمُ) من جواب القسم. (شَهادَةُ) ط لمن قرأ آلله بالمد (الْآثِمِينَ) ه (وَمَا اعْتَدَيْنا) ز لظاهر «إن» والوصل أجوز لتعلق «إذا» بقوله (وَمَا اعْتَدَيْنا) ز (الظَّالِمِينَ) ه (أَيْمانِهِمْ) ط لابتداء الأمر (وَاسْمَعُوا) ط (الْفاسِقِينَ) ه (أُجِبْتُمْ) ط (لَنا) ط (الْغُيُوبِ) ه (والِدَتِكَ) لا لئلا يوهم أنه ظرف لا ذكر بل عامله محذوف والتقدير : واذكر إذ أيدتك (وَكَهْلاً) ج (وَالْإِنْجِيلَ) ج (وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) ج (الْمَوْتى) ج لأن «إذ» يجوز تعلقه تعلق به «إذ» الأول ، ويمكن تعلق كل واحد بمحذوف آخر لتفصيل النعم (سِحْرٌ مُبِينٌ) ه (وَبِرَسُولِي) ط لاحتمال أن قالوا مستأنف أو عامل في (إِذْ أَوْحَيْتُ مُسْلِمُونَ مِنَ السَّماءِ) الأولى ط (مُؤْمِنِينَ) ه (الشَّاهِدِينَ) ه (وَآيَةً مِنْكَ) ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض (الرَّازِقِينَ) ه (عَلَيْكُمْ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب (الْعالَمِينَ) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) ط (ما لَيْسَ لِي) ط قد قيل وهو تعسف لأن المنكر لا يقسم به والقسم لا يجاب بالشرط بل الوقف على (بِحَقٍ عَلِمْتَهُ) ط (نَفْسِكَ) ط (الْغُيُوبِ) ه (وَرَبَّكُمْ) ج على أن الواو للاستئناف أو الحال أي وقد كنت (فِيهِمْ) ط لأن عامل «لما» متأخر وفاء التعقيب دخلتها (عَلَيْهِمْ) ط لأن الواو لا يحتمل الحال للتعميم في كل شيء (شَهِيدٌ) ه (عِبادُكَ) ج لابتداء الشرط مع الواو (الْحَكِيمُ) ه (صِدْقُهُمْ) ط لاختلاف الجملتين بلا عطف (أَبَداً) ط (عَنْهُ) ط (الْعَظِيمُ) ه (وَما فِيهِنَ) ط (قَدِيرٌ) ه.

التفسير : عن أنس أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال : فاسألوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به. فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال : يا نبي الله من أبي؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك ـ ويروى عكاشة بن محصن ـ يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله إن قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وقام آخر فقال : يا رسول الله أين أبي؟ فقال : في النار. ولما اشتد غضب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام عمر فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا. فأنزل الله هذه الآية. فهي عائدة إلى قوله (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) كأنه قال : ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما يشق عليكم.

٢٧

وأيضا كان المشركون يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكيا عنهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] إلى تمام الآية. وكان لبعض المسلمين أيضا ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم ، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت استحق المنكر العقاب العاجل ، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) [النور : ٢٩] فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم. وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه ، فقال الخليل وسيبويه : أصلها «شياء» على وزن «حمراء» فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه «لفعاء». وقال الفراء : أصلها «أفعلاء» بناء على أن «شيا» مخفف شيء كما يقال «هين» في «هين» وقد يجمع «فيعل» على «أفعلاء» كنبي وأنبياء ، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي «أشياء» على وزن «أفعاء». وقال الكسائي : وزنها «أفعال» ومنع الصرف تشبيها له بحمراء. ولا يلزم منه منع صرف «أبناء» و «أسماء» لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصورا على المسموع. والحاصل أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليها تكاليف شاقة صعبة. فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيفتضح ، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (١) وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم ، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه. وقال أبو ثعلبة : إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم (تُبْدَ لَكُمْ) تلك الأمور أو التكاليف. فالحاصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم. وقيل : السؤال قسمان : أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله (لا تَسْئَلُوا) والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن. لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا) رفعا للحرج وتمييزا لهذا القسم من الأوّل. وإنما حسن عود الضمير

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب ٣. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٣٢ ـ ١٣٣.

٢٨

في «عنها» إلى الأشياء وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين ، لأن كلا منهما مسؤول عنه في الجملة. وقيل : المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا تبد لكم. والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أوّلا ثم يسأل (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا» إليها ، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف. وقيل : إن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها. والمعنى لا تسألوا عن أشياء أمسك الله عنها وكف عن ذكرها كما جاء في الحديث «عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» (١) أي خفف عنكم بإسقاطها (قَدْ سَأَلَها) يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) سأل الناقة قوم صالح فعقروها ، وسأل الرؤية قوم موسى عليه‌السلام فصار وبالا عليهم ، وسأل المائدة قوم عيسى عليه‌السلام فكفروا بها ، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعا. ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها. ومعنى (ما جَعَلَ) ما حكم بذلك ولا شرع. والبحيرة «فعلية» من البحر الشق. وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول. قال أبو عبيدة والزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجا. وأما السائبة فإنها فاعلة من «ساب» إذا جرى على وجه الأرض. يقال : ساب الماء وسابت الحية ، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت ، قال أبو عبيدة : كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها. وقيل : هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة. وقال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل. وقيل : هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب ٣. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٥. النسائي في كتاب الزكاة باب ١٨. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٤ ، ١٥. الدارمي في كتاب الزكاة باب ٧. أحمد في مسنده (١ / ١٨ ، ٩٢ ، ١٣٢ ، ١٤٦).

٢٩

ميراث. وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها. وأما الحامي فيقال : حماه يحميه إذا حفظه. قال السدي : هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى. وقيل : إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت. فإن قيل : إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فلم لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معينا له على ما خلق لأجله ، أما العجم من الحيوانات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها. وأيضا الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب ، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق. (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حقه «لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه» والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) يعني العوام والأتباع. ثم رد على أهل التقليد بقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة. فنفى العقل عنهم هناك والعلم هاهنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل. قال أهل البرهان : العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل ، وكان دعواهم هاهنا أبلغ لقولهم (حَسْبُنا ما وَجَدْنا) فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ. ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون ، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه. تقول العرب : عليك زيدا وعندك عمرا يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل : خذ زيدا فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه. وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف ، بل الجار والمجرور معا منقول إلى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي اسم فعل. فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب ، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا خطب أبو بكر فقال : إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها

٣٠

وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب. وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات (لا يَضُرُّكُمْ) ضلال (مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) [النساء : ٨٤] وقيل : إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله. وكان ابن شبرمة يقول : من فرّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر. وقيل : إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ ، يؤكده ما روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب : عجبا من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق. وقيل : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال : إن هذا في آخر الزمان. ومثله ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيرا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال : ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله. وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ولاموه فنزلت.

ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أمر بحفظ المال. عن ابن عباس أن تميما الداري وأخاه عديا ـ وكانا نصرانيين ـ ، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ـ وكان مسلما مهاجرا ـ خرجوا للتجارة. فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات. ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. ومعنى (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر. وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما

٣١

يحتاج إليهم عند النزاع (وَإِذا حَضَرَ) ظرف للشهادة (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه. وفي هذا دليل أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان. وارتفع (اثْنانِ) على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم شهادة اثنين ، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان. وفي قوله (مِنْكُمْ) و (مِنْ غَيْرِكُمْ) قولان : فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن (مِنْكُمْ) أي من أقاربكم و (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من الأجانب. والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين. وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به. وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريج وابن سيرين أن (مِنْكُمْ) أي من أهل ملتكم و (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من كافر كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن. قال الشافعي : مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها فأخبراه بالواقعة. فقال أبو موسى : هذا أمر لم يقع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما. والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في (مِنْكُمْ) لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين ، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضا بالاتفاق ، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه البتة ، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة ، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلما ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة. وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب ، وبأن التحليف مشروط بالريبة وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما ، وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة ، وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد ، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالبا. ومما يصلح أن يكون مؤكدا لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخا لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولا قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ

٣٢

عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد ، ولا كذب أعظم من الفرية على الله تعالى وعلى رسله. وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاما لكلمة الإسلام. وموقع (تَحْبِسُونَهُما) أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل : فكيف نعمل إن ارتبنا؟ فقيل (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) قال ابن عباس : من بعد صلاة دينهما. وقال عامة المفسرين : من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده ، ولفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر ، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب ، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها. وقال الحسن : المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وقيل : بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان ، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد. وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات ، وقال أبو حنيفة : يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان. ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية. والمقسم عليه قوله (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) وقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) اعتراض ، والضمير في (بِهِ) ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا ولو كان من يقسم له قريبا منا ، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا كقوله (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) [النساء : ١٣٥] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إذا كتمناها كنا من الآثمين. ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عزوجل (شَهادَةُ) ثم ابتدأ (اللهِ) بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول : الله لقد كان كذا والمعنى بالله (فَإِنْ عُثِرَ) قال الليث : عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وقريب منه العثار لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه. والمعنى فإن حصل الاطلاع على أنهما استحقا إثما ـ وهو كناية عن الخيانة والحنث في الحلف ـ (فَآخَرانِ) خبر مبتدأ محذوف ، أو فاعل فعل محذوف ، أو صفة مبتدأ محذوف أي فالشاهدان أو فليشهد أو فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) قال في الكشاف : أي الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي التفسير الكبير أنه المال. وإنما وصف موالي الميت بذلك لأنه أخذ مالهم وكل من أخذ

٣٣

ماله غيره فقد حاول ذلك الغير أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليا على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال. وارتفع (الْأَوْلَيانِ) على أنهما خبر مبتدأ محذوف فكأنه قيل : ومن الآخران؟ فقيل : هما الأوليان ، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير في (يَقُومانِ) أو من (فَآخَرانِ) ويجوز أن يرتفع بـ (اسْتَحَقَ) أي من الذين استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال ـ قاله في الكشاف ـ ومعنى الأوليان الأقربان إلى الميت أو الأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، أو الأحقان باليمين إما على تقدير الرد وذلك عند الشافعي وكل من يرى رد اليمين على المدعي ، وإما لانقلاب القضية عند من يرى ذلك كأبي حنيفة وأصحابه ، فإن من أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادّعى الدين أوّلا لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه. وفي هذه القصة ادعى الوصيان أن الميت باع منهما الإناء ، والورثة أنكروا فكان اليمين حقا لهم. ومن قرأ (الْأَوْلَيانِ) على الجمع فعلى أنه نعت لـ (الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أو منصوب على المدح. ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة أو التقدم في الذكر في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وكذلك (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ذكرا قبل قوله قرأ (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ومن قرأ (اسْتَحَقَ) على البناء للفاعل (عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) فقد قال في الكشاف : معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين. وفي التفسير الكبير أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصية ، ولما خانا في مال الوصية صح أن يقال : إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان. روي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو إنه لم يوجد منا خيانة في هذا المال فخلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة ، ثم باعاه فوجد بمكة. وقيل : لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك ورثته فطلبوه منهما فقالا : كنا قد اشتريناه. فقالوا : ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتم لا؟ فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر وكتمنا. فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا) الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة فحلفا بالله بعد العصر (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الكذب والخيانة ، فدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت. وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه : صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى. وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فقال : حلفت كاذبا وقد بعت الإناء أنا وصاحبي بألف وقسمنا الثمن ، ثم دفع خمسمائة من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى

٣٤

ودفع الألف إلى أولياء الميت (ذلِكَ) الحكم الذي شرعناه والطريق الذي نهجناه أقرب إلى (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي كما هو في الواقع (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ) في مثل هذه القضية (أَيْمانٌ) على الورثة (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) وهذا تفسير من يرى ردّ اليمين ، وأما من لا يرى ذلك فالمعنى عنده أن تكرّ أيمان شهود آخرين لانقلاب المدعى عليه مدعيا وعلى التقديرين يظهر كذبهم. والحاصل أن هذا الحكم يصير باعثا للشهود على أداء حق الشهادة للداعي أو الصارف (وَاتَّقُوا اللهَ) في الأيمان (وَاسْمَعُوا) مواعظه سماع قبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن مناهج شرائعه وأحكامه وفيه من الوعيد ما فيه. قال المفسرون : هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وروى الواحدي في البسيط عن عمر بن الخطاب أن هذه الاية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام ، ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن حكم هذه الآية منسوخ.

ثم إنه سبحانه ختم الأحكام بوصف أحوال القيامة وذكر بعض ما سيجري هناك من الخطاب والعتاب جريا على عادته في هذا الكتاب من خلط التكاليف بالإلهيات والنبوّات وأحوال المعاد فقال (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) قال الزجاج : تقديره واتقوا الله يوم كذا لا على أنه ظرف لأنهم غير مأمورين بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على أنه بدل اشتمال من اسم الله ، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله (لا يَهْدِي) أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ ، أو منصوبا بإضمار «اذكر» ، أو ظرفا لما يجيء بعده وهو (قالُوا) وعلى هذين الوجهين تكون الآية منقطعة عما قبلها. و «ماذا» منصوب بـ (أُجِبْتُمْ) ولكن انتصاب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم ، ولو أريد الجواب لقيل : بماذا أجبتم. وفائدة السؤال توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤدة توبيخا للوائد. ثم ظاهر قوله (لا عِلْمَ لَنا) يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم ، فالجمع بين هذا وبين قوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] الآية مشكل. فقال جمع من المفسرين : إن للقيامة زلازل وأهوالا تزيل العقول ؛ فالأنبياء عندها ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون : لا علم لنا ، فإذا عادت إليهم عقولهم شهدوا للأمم. ولا يرد عليه قوله (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ٣١] (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] لأن مواقف القيامة مختلفة ، ولأن عدم الخوف في العاقبة لا ينافي الحيرة والدهشة أوّلا. وقال آخرون المراد منه المبالغة في توبيخ الكفرة فإن ذلك هو المقصود من السؤال كما يقول الواحد لغيره : ما تقول في فلان؟ فيقول : أنت أعلم به مني فكأنك قلت : لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره. وفيه مع التوبيخ إظهار لتشكي الأنبياء ممن كذبوهم وعادوهم. وقال ابن عباس : نفوا العلم عن أنفسهم عند علام الغيوب ليعلم أن علمهم هناك كلا علم. وقيل : المراد نفي العلم بخاتمة أحوالهم وما

٣٥

كان منهم بعد وفاتهم وإنما الأمور بخواتيمها. وقال في التفسير الكبير : إن الذي عرفوه منهم في الدنيا كان مبنيا على ظاهر أحوالهم كما قال : نحن نحكم بالظاهر وكان ظنا غالبا والأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأمور وبواطنها فلهذا نفوا العلم فإن الظن لا عبرة به في القيامة مع أن السكوت وتفويض الأمر إلى الأعلم الأعدل أقرب إلى الأدب.

وقرىء (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) بالنصب على أن الكلام قد تم عند قوله (أَنْتَ) أي أنت الموصوف بالجلال والكبرياء ، ثم نصب (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) على الاختصاص أو على النداء. ثم عدّد أنواع نعمه على عيسى عليه‌السلام واحدة فواحدة تنبيها على أنه عبد وليس بإله وتوبيخا للمتمردين من الأمم ، وأولى الأمم بذلك النصارى الطاعنون في ذات الله ، سبحانه باتخاذ الصاحبة والولد. وموضع (إِذْ قالَ) رفع بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله أو نصب بإضمار «اذكر» ، أو هو بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ) وإنما ذكر القول بلفظ الماضي دلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت كما يقال : الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم ، أو ورد على الحكاية كقول الرجل لصاحبه : كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا كذا. ومحل (يا عِيسَى) مضموم على أنه منادى مفرد معرفة ، أو مفتوح لأنه وصف بابن مضاف إلى علم وهو المختار للتخفيف وكثرة الاستعمال (نِعْمَتِي عَلَيْكَ) أراد الجمع ووحدت لأنه مضاف يصلح للجنس. وإنما قال (وَعَلى والِدَتِكَ) لأن النعمة على الولد نعمة على أبويه ، ولأن مكارم الأخلاق دليل على طيب الأعراق. (إِذْ أَيَّدْتُكَ) بدل من (نِعْمَتِي) أي قوّيتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي بجبريل والقدس هو الله كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له ، أو بالروح الطاهرة المقدسة وقد تقدم في البقرة (تُكَلِّمُ النَّاسَ) حكاية حال ماضية (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) في هاتين الحالتين من غير تفاوت (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) الخط أو جنس الكتب (وَالْحِكْمَةَ) النظرية والعلمية (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) يعنى الإحاطة بالأسرار الإلهية بعد العلوم المتداولة (فَتَنْفُخُ فِيها) الضمير للكاف لا للهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء ، وكذلك الضمير في (فَتَكُونُ) والكاف مؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي كهيئة الطير ومذكر في الظاهر فلهذا عاد الضمير إليه مذكرا تارة كما في آل عمران ، ومؤنثا أخرى كما في هذه السورة. وكرر (بِإِذْنِي) أي بتسهيلي ليعلم أن الكل بأقدار الله تعالى وتمكينه وإظهاره الخوارق على يديه وإلا فهو عبد كسائر عبيده. (وَإِذْ كَفَفْتُ) يروى أنه لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى برفعه إلى السماء. (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) من قرأ بغير ألف أشار إلى ما جاء به أو أراد أنه ذو سحر فأطلق عليه الحدث مبالغة ، ومن قرأ بالألف أشار إلى الرجل. واللام في (بِالْبَيِّناتِ) يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن يراد بها المعجزات المذكورة. وذكر قول الكفار في حقه (إِنْ هذا

٣٦

إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يحتمل أن يكون من تمام القصة استطرادا ، ويمكن أن يراد بذلك تعداد النعم أيضا لأن كل ذي نعمة محسود ، فطعن الكفار فيه يدل على علو شأنه وسموّ مكانه.

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

ولابتهاجه بهذه النعم الجسام والمنن العظام كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول مع كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا) إن كانوا أنبياء فظاهر وإلا فالوحي بمعنى الإلهام كقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] وهذا أيضا من جملة النعم لأن كون الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى. وقدم الإيمان على الإسلام ليعلم أنهم آمنوا بقلوبهم. وانقادوا بظواهرهم (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) من قرأ بالتاء وبالنصب فظاهر والمراد هل تستطيع سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله؟ ومن قرأ بالياء وبالرفع فمشكل لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا آمنا فكيف يتصوّر مع الإيمان شك في اقتدار الله تعالى؟ وأجيب بوجوه منها : أن حكاية الإيمان عنهم لا يوجب كمالهم وإخلاصهم في ذلك ولهذا قال لهم عيسى (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ومنها أنهم طلبوا مزيد الإيقان والطمأنينة ولهذا قالوا (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) ومنها أنهم أرادوا هل هو جائز في الحكمة أم لا ، وهذا على أصول المعتزلة من وجوب رعاية الأصلح ، أو أرادوا هل قضي بذلك وعلم وقوعه أم لا ، فإن خلاف معلومه غير مقدور وهذا عند الأشاعرة. ومنها قول السدّي إن السين زائدة وكذا التاء أي هل يطيع ربك؟ ومنها لعل المراد بالرب جبريل لأنه كان يربيه. ومنها أن المراد بالاستفهام التقرير كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ يريد أن ذلك أمر جلي لا يجوز للعاقل أن يشك فيه. قال الزجاج : المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها. وذلك أنها لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام فإذا لم يكن عليها طعام فهي خوان. وقال ابن الأنباري : هي من مادة إذا أعطاه كأنها تعطي من تقدم إليه. وقال أبو عبيدة : هي بمعنى «مفعولة» مثل (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أي مرضية كأن صاحبها أعطاها الحاضرين. قال عيسى (اتَّقُوا اللهَ) في تعيين المعجزة فإنه كالتحكم. وأيضا اقتراح معجزة بعد ظهور معجزات كثيرة تعنت ، أو أمرهم بالتقوى ليتوسلوا بها إلى المطلوب (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ، ٣] فأجاب الحواريون بأنا لا نطلب هذه المعجزة بمجردها ولكنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا ولا نجد طعاما آخر ـ يروى أنهم سألوها في مفازة على غير ماء ولا طعام ـ وأن نزداد

٣٧

يقينا وعرفانا وطمأنينة فإن التي شاهدناها منك معجزات أرضية وهذه سماوية فتكون أعجب وأغرب ، وأن نعلم صدقك في دعوى النبوّة أو فيما وعدتنا وذلك أنه كان قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ، وإذا تم صومكم فكل ما سألتموه الله تعالى فإنه يعطيكم. وإذا شاهدنا المعجزة كنا عليها من الشاهدين للذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله تعالى بالقدرة ولك بالنبوّة (تَكُونُ لَنا عِيداً) صفة للمائدة أو استئناف. وقرىء بالجزم جوابا للأمر. كان نزولها يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا. والعيد ما يعود إليك في وقت معلوم ومنه العيد لأنه يعود كل سنة بفرح جديد (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من لنا بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا ، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم ، أو للمقدّمين منا والأتباع. وقرىء لأولانا وأخرانا بمعنى الأمة أو الجماعة. فقول عيسى (رَبَّنا) ابتداء بذكر الحق و (أَنْزِلْ عَلَيْنا) انتقال من الذات إلى الصفات ، وقوله (تَكُونُ لَنا عِيداً) إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم. وقوله (وَآيَةً مِنْكَ) إشارة إلى كون المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله (وَارْزُقْنا) إشارة إلى حصة النفس فالحواريون قدّموا غرض النفس وأخروا الأغراض الدينية ، وأن عيسى بدأ بالأشرف حتى انتهى إلى الأخس ثم قال (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، وعند هذا يظهر التفاوت بين النفوس الكاملة والناقصة والمشرقة والمظلمة. اللهم اجعلنا من أهل الكمال والإشراق بعميم فضلك وجسيم طولك (مُنَزِّلُها) بالتخفيف والتشديد بمعنى. وقيل : بالتشديد للتكثير وبالتخفيف مرة واحدة (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قال ابن عباس : يريد مسخهم خنازير. وقيل : قردة. وقيل : جنسا من العذاب لا يكون مؤخرا إلى الآخرة. (وَعَذاباً) نصب على المصدر أي تعذيبا والضمير في (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء في الموضعين ، فقيل : أعذبه بعذاب لا أعذب به أحدا ، وأراد بالعالمين عالمي زمانهم. واختلف في أن عيسى عليه‌السلام سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل. أما نزولها فقد قال مجاهد والحسن : إن المائدة ما نزلت بل القوم لما سمعوا العذاب استغفروا وقالوا : لا نريدها وأكدوا هذا القول بأنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم ، فلو نزلت لبقي العيد إلى يوم القيامة. وقال جمهور المفسرين : إنها نزلت لأنه سبحانه وعد إنزالها بقوله (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ثم إن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم. روي أن عيسى عليه‌السلام لما أراد الدعاء لبس الصوف ثم قال : اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه‌السلام

٣٨

وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. ثم قال لهم : ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها ، فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك. فقام عيسى عليه‌السلام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين. فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله. فقال الحواريون : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها : عودي كما كنت فعادت مشوية. ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وقيل : إن عيسى عليه‌السلام كان شرط عليهم أن لا يسرفوا في الأكل ولا يدخروا فعصوا وادخروا فمسخوا ، (وَإِذْ قالَ اللهُ) معطوف على مثله. والصحيح أن هذا القول أيضا يوم القيامة لقوله عقيب ذلك (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقيل : هذا عند رفع عيسى عليه‌السلام نظرا إلى أن «إذ» للماضي وقد مر توجيه ذلك. (أَأَنْتَ قُلْتَ) استفهام بطريق الإنكار والغرض منه توبيخ النصارى. قال بعض المشككين : إن أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى عليه‌السلام وأمه مع القول بنفي إلهية الله تعالى. وأجيب بأن الإله هو الخالق وأنهم يعتقدون أن خالق المعجزات والكرامات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى ومريم وليس لقدرة الله سبحانه في ذلك مدخل ، فبهذا التأويل صح ما حكي عنهم. وأقول : يشبه أن يكون المراد بقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) أي بعد الله فيكون التوبيخ على التثليث. أو المراد أنه لما دل البرهان على نفي تعدد الإله فمن قال بإلهية عيسى أو أمه لزمه القول بنفي المعبود الحق تعالى عن ذلك ولهذا قال عيسى (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك. ثم لم يجب بأني قلت أو ما قلت لأن ذلك يجري مجرى الطهارة والتبرئة بل أجاب بقوله (ما يَكُونُ) أي ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله إظهارا لغاية الخضوع والاستكانة. ثم فوّض الأمر إلى علمه المحيط بالكل فقال (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ثم علل ذلك بقوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك. وذكر النفس ثانيا لأجل المشاكلة وهو من فصيح الكلام ، أو تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي ، أو تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك ، أو تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل ـ عبارات للمفسرين ـ ثم أكد ما ذكر بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) «أن» في قوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) إن جعلتها مفسرة

٣٩

فالمفسر إما فعل القول أو فعل الأمر ولا وجه لكليهما. أما فعل القول فيحكى بعده الكلام بلا «أن» فيقال : ما قلت لهم إلا اعبدوا الله اللهم إلا أن يقال : إن المضاف محذوف والتقدير ما أمرتني بقوله ، فيكون التفسير الصريح القول المقدر ، وصريح القول المقدّر كالفعل المؤوّل بالقول في عدم الظهور حتى يجوز توسيط «أن». وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله ، فلو فسرته بـ (اعْبُدُوا اللهَ) لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها مصدرية عند من يجوّز دخولها على الطلبية ، فإن كان بدلا من (ما أَمَرْتَنِي) والمبدل في حكم السقوط كان المعنى ما قلت لهم إلا عبادته ولا يستقيم ، لأن العبادة لا تقال ، وإن جعلته بدلا من الهاء في (بِهِ) لم يصح أيضا لأنه يؤل المعنى بعد طرح المبدل إلى قولك إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله فيبقى الموصول بلا عائد. فإذن الوجه أن يحمل فعل القول على معناه فيكون أصل المعنى ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم إلا أنه وضع القول موضع الأمر رعاية للأدب كيلا يجعل نفسه وربه آمرين ودل على الأصل بذكر «أن» المفسرة. قال في الكشاف : ويجوز أن تكون «أن» مصدرية عطف بيان للهاء لا بدلا ، وحينئذ يبقى العائد بحاله (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من التدين بما يوجب التفكير (ما دُمْتُ فِيهِمْ) مدة دوامي فيما بينهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) بالرفع إلى السماء (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) الحافظ (عَلَيْهِمْ) المراقب لأحوالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) من الشهادة أو من الشهود بمعنى الحضور.

(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) فيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى هذا القول والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب أن قوله لعيسى عليه‌السلام (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) مبني على أن قوما من النصارى حكوا عنه هذا الكلام ، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا فقط ، ولو سلم أنه أشرك فغفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لأن العقاب حق الله على المذنب وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة ، بل كلما كان الجرم أعظم كان العفو أحسن ، إلا أن الدليل السمعي في شرعنا دل على أنه لا يكون فلعل هذا الدليل السمعي لم يكن موجودا في شرع عيسى عليه‌السلام ، أو لعل عيسى جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه. أما من زعم أن هذه المناظرة والمحاورة إنما كانت عند رفعه إلى السماء فلا إشكال أصلا لأن المراد إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك ، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر على ما تريد (الْحَكِيمُ) في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك ، وفى

٤٠